Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
1 juin 2016 3 01 /06 /juin /2016 15:33

منهجية تحليل ومناقشة سؤال إشكالي مفتوح

من إعداد الأستاذ: عبد الكريم بوهو

هل يتقدم التاريخ خارج إرادة الإنسان؟

يتميز الوضع البشري بالبعد التاريخي باعتباره سيرورة جماعية تعكس تجليات وانعكاسات متعددة للإرادات والمصالح والرهانات البشرية؛ والحديث عن دور الإنسان في التاريخ من خلال فكرة التقدم بهذا المعنى، يجعل الوقائع التاريخية عبارة عن سيرورات مركبة يتفاعل فيها الذاتي بالموضوعي، والحاضر بالماضي وبرهانات المستقبل أيضا؛ فليس التاريخ هاهنا مجرد أحداث عارضة تلحق بماهية إنسانية محددة سلفا، ولا هي قوانين تتحكم في مجريات التاريخ كما تتحكم بعض القوانين في الظواهر الفيزيائية والطبيعية. إن التاريخ هو مجال ينكشف فيه المطلق حينما تعجز الإرادة الإنسانية ببرامجها السياسية والاقتصادية والتنموية، وبمخططاتها الاستراتيجية، عن التحكم في الحاضر واستشراف المستقبل؛ فيصير بذلك مجال الفعل البشري مشروطا في المكان والزمان بأنماط الإنتاج المادي والتنظيم الاقتصادي. على هذا الأساس يمكن أن نتحدث عن التاريخ كسلسلة من الأحداث المتعاقبة، المتكررة والمرتقبة أحيانا، وانزياحات تاريخية مفاجئة غير منتظرة أحيانا أخرى. إن السيرورة التاريخية سواء كانت في مرحلة من مراحل تقدمها، حاضرا معاشا بتلقائية وعفوية، أو مشروعا متحققا من خلال رؤية استشرافية، واستراتيجية مستقبلية، تبقى سيرورة معقدة تطرح العديد من الإشكالات والتساؤلات المرتبطة بالمنطق الذي يحكمها، بين أن يكون للفعل البشري دور في بناء هذا المنطق، أو أن يكون الفعل البشري نتاجا لسيرورة تاريخية محتومة تخضع الإرادة الإنسانية لمنطقها وحتمياتها.

انطلاقا من هذه المفارقات يمكن بسط الاشكالية التالية: ما التاريخ؟ هل هو سلسلة من الأحداث المتعاقبة بالضرورة، أم أن الوقائع التاريخية تتشكل وفق منطق يتجاوز الإرادة البشرية؟ أو بتعبير آخر أدق، هل التاريخ تقدم أم تكرار؟ أهو تقدم محكوم بضرورات وحتميات تفرض وتعيد نفسها، أم أن الوقائع التاريخية عبارة عن طفرات وقطائع لا تحكمها إلا الصدفة والعرضية؟ وهل لتراكم التجارب البشرية إمكانية رسم وجهة محددة للسيرورة التاريخية؟ وإذا كان من الممكن ذلك، فهل سيكون للإنسان دور فاعل في صنع التاريخ والتحكم في سيرورته وإنتاج أحداثه، أم أن منطق التاريخ وقوانينه يرسمان للفعل البشري حدودا لا يمكنه تخطيها؟

قبل الإجابة عن مختلف هذه التساؤلات المؤطرة للموضوع قيد التحليل، يتبين أن ارتكاز البنية الاستفهامية للسؤال على الأداة "هل" تسائلنا حول إمكانيتين مختلفتين، إحداهما تحيلنا إلى الإقرار بكون التاريخ يتقدم خارج إرادة الإنسان، والأخرى مسكوت عنها يمكن من خلالها الإقرار بدور الإنسان في صناعة التاريخ والتحكم في تقدمه. إلا أن منطوق السؤال في الحقيقة يحيل إلى أطروحة مفترضة مفاذها أن التاريخ يتقدم خارج إرادة الإنسان.

في هذا السياق، ومن أجل استجلاء بعض الخيوط الأساسية التي تنفصل أو تتمفصل من خلالها الإرادة البشرية بمنطق تقدم التاريخ، فلا بأس من الوقوف عند دلالة التاريخ لعلنا نجد في بنية المفهوم ما يساعدنا على تفكيك بعض من عناصر الإشكالية المطروحة. يشير مفهوم التاريخ في اللغة إلى الإعلام بالوقت، فيقال مثلا: أرخ يؤرخ الكتاب، أي بين وقت كتابته؛ ويحيل في الاصطلاح إلى التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال والوقائع المرتبطة بالإنسان؛ في حين تشير الدلالة الفلسفية لمفهوم التاريخ حسب بن خلدون إلى سيرورة العمران الاجتماعي البشري، وكل معرفة تاريخية ليست مجرد سرد لأخبار الأيام والدول، بل هي نظر عقلي في أحوال الماضين وتعليل حدوثها وسبرها بمعيار العقل والحكمة. فإذا كانت بعض التصورات التقليدية تعتبر التاريخ مجرد سرد لأحداث الماضي، أو عملا أدبيا يهدف إلى إعادة حكي هذا الماضي انطلاقا من تمثلات في الغالب ما تكون خاطئة ومزيفة تنبني على المزج بين الحكايات والتقاليد الشعبية والأسطورية، فعلى العكس من ذلك تماما، سيعرف المؤرخ الفرنسي المعاصر هنري مارو التاريخ بأنه "معرفة علمية نكونها عن الماضي الإنساني"، متجاوزا بهذا التعريف المعرفة العامية المتمثلة في الروايات والحكايات الشعبية والأسطورية؛ إنه فحص نقدي ومساءلة مستمرة لأحداث ووقائع الماضي، تتميز عن الحكي والسرد، ولا يمكن أن تكون عبارة عن عمل أدبي يروم كتابة الماضي فقط، خاصة وأن السيرورة التاريخية تخضع لفلسفة حاولت، منذ القرن السابع عشر مع عصر الأنوار، مقاربة إشكالاته من خلال فكرة التقدم حيث أصبح الإنسان يعتز بالمعرفة العقلية والمناهج والنظريات العلمية؛ فمفهوم التقدم ارتبط في البداية بالاكتشافات والثورات العلمية التي حققتها العلوم الحقة (الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء...)، لينتقل بعد ذلك فيخترق العلوم الإنسانية التي وظفته في كثير من الحقول الابستمولوجية وعلى رأسها التاريخ، وذلك بالنظر إلى تنامي النزعة الإنسانية التي تعلي من الدور الذي أصبح الإنسان يلعبه في تقدم التاريخ والتحكم في مجرياته باعتباره ذاتا عاقلة ومفكرة. إلا أن مقاربة إشكالية المنطق المتحكم في تقدم التاريخ من خلال بعض النظريات والتصورات، جعلته يقف أمام بعض الحقائق المخيبة للآمال، إذ ستؤكد العديد من التصورات الفلسفية والدراسات السوسيولوجية على أن السيرورة التاريخية تتقدم خارج إرادة الإنسان؛ فالتاريخ قد يهدف إلى تحقيق فكرة مطلقة يدركها العظماء فقط، ويقدمون أنفسهم قربانا لها، معتبرين تلك الفكرة هي فكرة تسري في المجتمع وتشكل الروح التي يسعى إلى تحقيقها، وينحصر دور الإنسان في التاريخ من خلال ما ينجزه العظماء فقط باعتبارهم مجرد وسائل تحقق غايات العصر والروح المطلق؛ لهذا علينا أن نسميهم الأبطال لأنهم لم يبحثوا عن غاياتهم ولا عن مواهبهم في النظام القائم والهادئ، بل أتوا بها من مصدر آخر، من الروح الذي لا يزال خفيا ولم يحقق بعد وجوده الفعلي. إن الناس حينما يجتمعون ويلتفون حول هؤلاء العظماء لمساندتهم في مشروعهم، فإن ذلك يعبر حقيقة عن إدراكهم بأن هذه الشخصيات التاريخية تمثل الاتجاه العميق للتاريخ، الذي هو تاريخ الروح المطلق، وليس تاريخهم الخاص؛ وعندما يحققون غايات هذا الأخير، تنتهي مهمتهم ويسقطون كقشور فاكهة أفرغت من نواتها. في هذا السياق يمكن أن نقدم أمثلة من التاريخ لهؤلاء الأبطال الذين كانوا مجرد وسائل في يد الروح لتحقيق أهدافها، كالإسكندر الأكبر الذي مات ولايزال شابا قويا في مقتبل العمر، والقيصر الذي قتل، ونابليون بونابرت الذي نفي، وصدام حسين الذي أعدم في عيد الأضحى بعدما كان يمسك بزمام الحكم في العراق بقبضة من حديد، كلها أحداث تعبر عن مكر التاريخ. من هنا يمكن أن نفهم قولة هيجل المشهورة: "كل ما هو واقعي فهو عقلي، وكل ما هو عقلي فهو واقعي"، أي أن كل ما وقع في التاريخ من أحداث كان لابد أن يقع رغما عن الإنسان.

إذا كانت الأطروحة الفترضة في السؤال، قيد المناقشة، قد آمنت بمحدودية دور الفاعلية البشرية في تقدم التاريخ، فإلى أي حد يمكن لهذه الأطروحة أن تحيط بكل الجوانب المفسرة لإشكالية دور الإنسان في تقدم التاريخ؟ ألا يمكن تخليص هذه الأطروحة من البعد الميتافيزيقي المتمثل في قضاء وقدر العقل أو الروح المطلق؟

مما لا شك فيه أن الأطروحة المفترضة في السؤال تعكس رؤية فلسفية للمنطق المتحكم في التاريخ البشري، منطق يتقدم وفق إرادة الروح أو العقل المطلق، وأن دور الإنسان يتحدد في كونه مجرد ممثل وحامل لفكرة تتجاوزه وتتعالى عليه لأنها من مصدر آخر خارج عن إرادته وسلطانه. فبالرغم من أهمية هذه الأطروحة التي تستلهم فلسفتها من التصور الهيجيلي، إلا أنها قد أسقطت الإرادة الإنسانية في قبضة قضاء وقدرالروح المطلق، حيث ظل العقل يتميز فيها بطابع روحي. وبعيدا عن مختلف التصورات المتعارف عليها في ميدان العلم، فهيجل في وصفه للعقل، لا نجد أنه يقدم العقل كقدرة فردية ذاتية، وإنما كعقل إلهي أو كفكرة مطلقة، بل أكثر من ذلك نجد أنه قد أوقف حركة العقل وتطوره. على هذا الأساس تعرض هذا التصور المثالي للتاريخ لانتقادات متعددة، على رأسها كارل ماركس الذي رأى في الجدل الهيجلي النواة الأساسية للتطور التاريخي، لكنه جدل يمشي على رأسه، وقد وجب قلبه حتى يمشي على قدميه؛ لذا اقترح ماركس تصورا ماديا للتاريخ البشري، يقوم على صراع طبقي يكون فيه دور الفرد محكوما بشروط اقتصادية وظروف خارجة عن إرادته.

صحيح أن الناس -حسب كارل ماركس- "هم الذين يصنعون تاريخهم الخاص، إلا أنهم لا يفعلون ذلك عشوائيا، وضمن شروط من اختيارهم، بل وفق شروط معطاة وموروثة"، معنى هذا القول أن ماركس رغم محاولته تخليص التاريخ البشري من قضاء وقدر العقل أو الروح المطلق، إلا أنه أسقط هذا التاريخ في يد القدر المادي الذي يتجه بالإنسان نحو مجتمع بلا طبقات. إن هذا التصور الماركسي المادي للتاريخ البشري، جعل السؤال حول دور الإنسان في صناعة التاريخ، يطرح من جديد، ويفتح آفاقا فكرية جديدة تزيد الإشكال تعقيدا؛ فبربط ماركس البنية الفوقية (البنية الفكرية المتعلقة بأنماط الوعي) بالبنية التحتية (البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، يعتبر الإنسان كائنا تاريخيا، فإنه لا يشكل بذلك غير نتاج للبنية التحتية المتحكمة في وضعه ووعيه، مما يجعل من تلك البنية صانعا لتاريخه من خلال قدرته على تجاوز الواقع المعطى والقفز بذاته في اتجاه المستقبل من خلال شرط الوعي الطبقي والثورة الدموية المشروعة، على اعتبار أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ.

إذا كان ماركس يرى أن التاريخ البشري محكوم بتقدم هو في حقيقته تتال لأنماط إنتاج تفهم باعتبارها مراحل تقود إلى بعضها البعض عبر الصراع كمحرك أساسي للتاريخ، فإنه يمكن الاعتراض على هذا التصور، لأنه يحصر تقدم التاريخ في اتجاه مغلق ومعلوم. فمن شأن القبول بفكرة التقدم الآلي والمحكوم مسبقا بمآل حتمي، أن يقتل دور الإرادة والوعي البشري في تحقيق وإثبات وجوده. لهذا حافظ موريس ميرلوبونتي على مسافة نقدية مع الماركسية في تصورها للتاريخ، مؤكدا في كتابه "المعنى واللامعنىle sens et le non sens" على أهمية العرضية والصدفة في حركية التاريخ، فما يكون مقررا ومخططا له من قبل، لا يعني أنه سيتحقق بالضرورة، لأن النظر إلى التاريخ كنسق، لا يجب أن يكون منغلقا بصفة نهائية. ويدافع ميرلوبونتي عن أطروحته من خلال إبراز التقابل بين منطق التاريخ وعرضيته، ليبين أن هذا الأخير ليس له منطق محدد يحكمه، بقدر ما تؤثر العرضية في مساره وسيرورته، فقد يحدث أن تختل العلاقة الجدلية والسببية بين الشروط والنتائج، كما يمكن لدينامية التاريخ أن تخرج عن الأهداف المرسومة والغايات المتوقعة. إلا أنه رغم الدور الذي تلعبه العرضية في التأثير على سيرورة التاريخ، إلا أن ميرلوبونتي لا ينكر وجود منطق يتحكم في التاريخ، لكن كإمكانية من ضمن إمكانيات أخرى متعددة.

خلاصة ما يمكن استنتاجه، من خلال عناصر التحليل والمناقشة، هو أننا حينما نريد تحديد دور الإنسان في التاريخ نجد أنفسنا أمام إشكالية معقدة تعكس مدى تعقد الوضع البشري المتعدد الأبعاد من جهة، وأن كل إجابة عن هذه الإشكالية ستكون مختلفة باختلاف حقيقة التاريخ ومنطق تقدمه من جهة أخرى.  لذلك فإن التساؤل عن دور الإنسان في التاريخ استمرار للتساؤل عن المنطق المتحكم في تقدمه؛ فالتاريخ هو أحداث ووقائع تقف وراءها اختيارات وقرارت إنسانية، كما أن هذه الاختيارات يمكن أيضا أن تكون نتاجا لسيرورة تاريخية محتومة تخضع الإنسان لإرادة الروح المطلق بغاياته وحتمياته.

على هذا الأساس يتضح لي أننا أمام وضع إشكالي حقيقي يتموضع بين كون التاريخ نوعا من التحرر الهادف -على غرار ما يقوم به المحلل النفساني- إلى تخليص الذات الفردية من آثام ماضيها حتى تتحرر منها فتحقق الانعتاق والحرية، إلى وضع يكون فيه التاريخ بمثابة فكرة مطلقة لا يسعى إلى تحقيقها غير العظماء الذين أدركوا روح التاريخ والمجتمع وما يصبوان إلى تحقيقه، وأخيرا إلى وضع يصبح فيه التاريخ بمثابة نتيجة حتمية لأوضاع وظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، تحدد مساره، وترسم معالمه بشكل حتمي؛ الشيء الذي يجعل علاقة الإنسان بالتاريخ علاقة إشكالية بامتياز.

 

 

Partager cet article
Repost0

commentaires

ثانوية مولاي رشيد بأجلموس

  • : عبد الكريم بوهو
  • : الدرس الفلسفي
  • Contact

لتحميل دروس الفلسفة

http://www.4shared.com/folder/TNf5Ba1e/_____.html

بــــــــحـــــــــث

مواضيع الامتحان الوطني الموحد لجميع المواد